تعلمتُ في الجامعة، وقبل دخولي معترك الحياة العملية، أن "التفكير" هو مهارة قابلة للصقل والنقل. ولكن لم أرَ وقتها الصورة الكاملة لقدرة الكلمات والأفكار على استحضار مهارات التفكير المستقل والنقد البناء، وكيف أن مهاراتي في فهم الأفكار والكلمات يمكنها أن تثبت لصاحب العمل مثلًا، أنني أمتلك الموهبة اللازمة لهذه الوظيفة. واليوم، وبعد قرابة عقدٍ من الزمان، أدركت أنه حقًا لم يمر يوم لم تكن فيه القدرة على القراءة والتفكير جوهرية في تعزيز مهاراتي المكتسبة. فها هي خبرتي تتمحور حول التفكير العميق من خلال القراءة، أو القراءة بسبب التفكير. أصبحت عملية فهم النصوص بعمق وكأنها حيلتي السرية، التي تزداد قيمتها بالنسبة لي مع مرور كل عام.
لنبسط الأمر قليلًا: كل جوانب التواصل والاتصال التي نستهلكها يوميًا، سواءً من وسائل الإعلام، أو المعلنين، أو السياسيين، أو القادة، تروي لنا قصةً ما. ويأتي هنا دورنا في التفكير النقدي بماهية هذه القصص، وتفكيكها وفهم أجزائها لتعزيز فهمٍ حقيقي وواقعي لحياتنا اليومية. ونتساءل، ما الذي يود المؤلف هنا إخبارنا؟ ما هي أسباب هذا الطرح المحدد في وقته ومكانه؟ ولم استخدم تلك الكلمات المعينة؟ وتصبح العملية الاستيعابية عبارةً عن أسئلة تقود إلى أخرى، تخلق بدورها سلسلة من الأفكار التي تشكل في النهاية صورة شاملة لفهمي الخاص.
وواقع الأمر أن تطوير قدراتكم لكي تصبحوا مفكرين نقديين يتطلب الوقت، خاصة إذا نشأتم في بيئة تثبط التفكير العميق. عندما بدأت أجتهد في تحسين قدرتي على التساؤل من خلال الأدب، والاستمتاع بتفسيراتي الشخصية، برزت عندي حينها ثقة جديدة في كيفية رؤيتي للعالم وتفسير تلك الرؤية، وقدرتي على اعتبار وجهات النظر الأخرى. أدركت أنني أستطيع أن أتعامل مع أي موقف، أو عمل فني، أو محادثة، بالبدء في طرح الأسئلة التي ستقودني إلى الإجابات الصحيحة. كما هو حالي مثلًا مع بيتٍ من الشعر، من دون أن أدري، كنت قد صقلت هذه المهارة المتمثلة في القدرة على تفكيك التعقيد أو البساطة إلى أسئلة، بحيث يمكن تحويل فكرة بسيطة إلى فكرة أكثر تعقيدًا، أو تبسيط فكرة معقدة.
وأحب أن أذكر هنا أحد مقالاتي المفضلة، "موت المؤلف" لرولان بارت، والذي يجادل فيها بأن معنى النص (وربما كل شيء) ليس ما قصده المؤلف، بل ما يفسره القارئ. إذا طبقنا هذا على إحدى قصائدي المفضلة كمثال، يمكننا تحليل هذه الأسطر الأربعة من "أغنية حب لـ ج. ألفريد بروفروك" للشاعر ت. س. إليوت:
"هل أجرؤ
أن أزعج الكون؟
في دقيقة هناك وقت
لاتخاذ قرارات وتعديلات ستغيرها دقيقة أخرى."
أعتبر تحليل الشعر أو أي نوع من التواصل كرحلة تساؤل. عندما يقول الشاعر "هل أجرؤ"، فمن هو الأنا؟ وما حاجة "الجرأة"؟ هل هذا فعل ناتج عن الشجاعة أم التهور؟ استخدام كلمة "أزعج" تفتح أيضًا مجالًا واسعًا للتفسير. هل "الإزعاج" هو فعل مقصود ومحدد أم هو جزء من أزمة وجودية يشعر بها المتحدث؟ هل لـ "الإزعاج" جانب أخلاقي؟ هل يصارع المتحدث نفسه عمّا إن كان تسبيب "الإزعاج" فعلًا صائبًا أم خاطئًا؟ تبدو الأسئلة وكأنها بلا نهاية، ولكن التمرين سيمكّنكم من أن تتعاملوا مع كل موقف تواجهونه بتفكير نقدي ودقيق.
وبالإضافة إلى ذلك، ولقراءنا الأعزاء، أود كمترجمة بتصرف وبإذن وترحيبٍ من كاتبة المقال، أن أستشهد بشعر عربي يلهمني كثيرًا في هذا السياق، وهو للشاعر محمود درويش الذي قال في قصيدته "ربما":
"ربما ما زلتُ حيًّا في مكانٍ ما وأعرفُ ما أريدُ …"
هذا السطر من درويش يتأمل في معاني استمرارية الوجود ومعرفة الأهداف الشخصية رغم كل الشكوك والتحديات التي تطرحها الحياة. وكما هو الحال مع إليوت، نجد أن درويش يتناول موضوع التساؤل الوجودي والمواجهة مع الذات، مع محاولة فهم دوافعه وأهدافه رغم عدم اليقين الذي يحيط به.
وتُكمل الكاتبة سردها:
في مكان العمل، كما هو الحال مع الشعر، تساعدني هذه المهارة المكتسبة على تفكيك التقارير أو الاستراتيجيات المعقدة، وتحليلها إلى أجزاء يمكن التعامل معها، في تحديد الثغرات واقتراح حلول قد لا تكون واضحة على الفور. كما تخدمني الكلمات في فهم الفروق الدقيقة في ملاحظات العملاء وتكييف نهجي لتلبية احتياجاتهم المحددة، أما رسم أوجه التشابه بين الموضوعات المختلفة فيعزز من قدرتي في العثور على المسار الأمثل للمضي قدمًا. في حالات اختلافات الرأي داخل الفريق، تساعدني تلك المهارة على الاستماع، وطرح الأسئلة العميقة، والتنقل عبر الأجواء الضبابية أحيانًا للعثور على حلول واضحة. وربما الأهم من ذلك، تساهم في تعزيز علاقاتي مع الفريق، سواء كان ذلك يتضمن العصف الذهني، أو تلقي/تقديم الملاحظات، أو استيعاب وجهات نظر الآخرين. ببساطة، هذه فوائد واضحة مرتبطة بالعمل نقلتها من تحليلاتي الأدبية.
أحد أجزائي المفضلة في تحليل النصوص هو إيجاد الروابط المخفية، مثلًا إذا قرأتُ سطرًا من الشعر أو النثر وبدأت في تفكيك النص، يمكنني في النهاية أن أبدأ بالمقارنة والعثور على خيوط من المعاني ترتبط بقطع نصية أخرى أو أعمال فنية. مدى الاحتمالات لا يحدده إلّا اتساع خيالكم، وليس له علاقة بالمعنى المقصود من المؤلف. كلما قمتم بذلك، زادت المقارنات التي يمكنكم إجراؤها، بغض النظر عن مدى غرابتها. يمكن لمقارنتكم أن تكون محددة، مثل مقارنة استخدام حرف العطف "و" بين قصيدتين، أو عامّة مثل مقارنة كيفية وصف مؤلفين مختلفين لمعنى الحب. هذا التمرين في إيجاد المعاني المختبئة وإضفاء الحياة على السرديات يضفي علينا لذة الحرية. بمجرد أن تسمح لعقلك بالتفكير بحرية وتتخلى عن "التفسيرات الصحيحة"، فإنك تحرر نفسك من القيود الذهنية المتعلقة بـ "التفسيرات الصحيحة" و"الطرق الصحيحة" في التفكير، مما يتيح عالمًا أوسع من الاحتمالات. هذه العملية مفيدة بشكل خاص لحل المشكلات، والعصف الذهني، أو للتفكير النقدي في مجالات مثل تقييم المخاطر، حيث تكون الأفكار غير التقليدية مرحّبًا بها بل مطلوبة.
وأدرك اليوم، أن الجهد الذي أقوم به بمنح المساحة المطلوبة لتفسيراتي الشخصية هو مسعى لتحقيق الذات. عندما أسمح لأفكاري بأن تتنفس، وأحترمها فوق ذلك بطرح الأسئلة وتحليلها، أعلم أنني أسمح لعقلي بممارسة قدرته على توسيع نطاق تفكيره. لا يكفيني أن أتعلم كيف أفكر؛ أريد أن أستمتع حقًا بهذه المغامرات الفكرية وأتقبل وجود كلٍّ منها.
واليوم، عندما أجلس في الاجتماعات، أو يتم تسليمي نصًا للتحرير، أو يُطلب مني تقديم ملاحظات على مفهوم معين - تدخل كل هذه المهارات "التفكيرية" في العمل. ممارسة طرح الأسئلة والسماح للأفكار بالنمو لتصبح مفاهيم قوية تتيح لي أن أكون مساهمًة جدية في المحادثات، وأن أتمكن من تحديد الفجوات التي قد لا يراها الآخرون. وأستطيع أيضًا الحسم في أفكاري والدفاع عنها بالضبط لأنني قد أخضعتها لعملية تساؤل دقيقة قبل أن أعبر عنها. والأهم من كل ذلك أنني اليوم أمتلك الموهبة الحقيقية في الاستماع والتعاطف واستيعاب وجهات نظر الآخرين، مما يفتح الباب للمزيد من الإبداع والخيال الذي سيواجه أفكاري ويحولها إلى آراء أكثر عمقًا.
في شركة رؤية، ترتكز رؤيتنا على مفهوم "الإحسان"، وهي فكرة الإتقان التي تشمل جميع جوانب حياتنا، سواء كان ذلك في كيفية تعاملنا مع الناس، أو العمل الذي نقدمه، أو حتى في كيفية اعتنائنا بأنفسنا. في النهاية، أجد أن الطريقة التي أستطيع بها استحضار قيمة "الإحسان" إلى العمل تكمن في تحقيق إمكانيات "الذات" من خلال عملية التفكير التي تعلمتها وصقلتها على مر السنين. بالنسبة لي، الأدب هو مفتاح كل ذلك.
ترجمة: مريم وسام الدباغ